الأمثلةُ:
(1)
قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ} (1) سورة إبراهيم.
(2)
وقال المتنبي وقد قابله مَمْدُوحُهُ وعانقَه [2]:
فلم أرَ قَبلي مَن
مَشَى البحرُ نحوَهُ ولا رَجُلاً قامَتْ
تُعانِقُهُ الأُسْدُ
(3)
وقال في مدح سيف الدولة [3]:
أمَا تَرَى ظَفَراً
حُلْواً سِوَى ظَفَرٍ تَصافَحَتْ فيهِ
بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّممُ [4]
--------
(1)
وقال الحجَّاجُ في إحْدى خُطَبه [5]:
إني
لأرَى رُؤُوساً قد أينَعَتْ وحانَ قِطافُها وإِنّي لَصَاحِبُهَا [6] .
(2)
وقال المتنبي [7]:
ولمّا قَلّتِ
الإبْلُ امْتَطَيْنَا إلى ابنِ أبي
سُلَيْمانَ الخُطُوبَا [8]
(3)
وقال أيضاً[9]:
ألمَجْدُ عُوفيَ إذْ
عُوفيتَ وَالكَرَمُ وَزَالَ عَنكَ إلى
أعدائِكَ الألَمُ
البحثُ:
في
كل مثال من الأمثلة السابقة مجازٌ لُغويٌّ: أيْ كلمةٌ استُعْملت في غير معناها
الحقيقيِّ، فالمثالُ الأَول من الأمثلة الثلاثة الأُولى يشتملُ على كلمتي الظلمات
والنور ،ولا يُقْصد بالأُولى إلا الضلال، ولا يراد بالثانية إلاَّ الهدى والإيمان،
والعلاقة المشابهة والقرينة حاليةٌ؛ وبيتُ المتنبي يحتوي على مجازين هما
"البحرُ" الذي يراد به الرجل الكريم لعلاقة المشَابهةِ، والقرينةُ
"مشى" و "الأُسْد" التي يراد بها الشجعان لعلاقة المشابهةِ،
والقرينةُ "تعانقُه" والبيت الثالث يحتوي على مجاز هو "تصافحتْ"
الذي يراد منه تلاقتْ، لعلاقة المشابهةِ والقرينة "بيضُ الهند واللمم".
وإذا
تأملتَ كلَّ مجاز سبق رأيت أنه تضمَّن تشبيهاً حُذِف منه لفظ المشبَّه واستعير
بدله لَفْظ المشبَّه به ليقومَ مقامَه بادعاء أنَّ المشبَّه به هو عينُ المشبَّه،
وهذا أبعدُ مدى في البلاغة، وأدخَلُ في المبالغة، ويسمَّى هذا المجاز استعارةً،
ولما كان المشبَّه به مصرّحاً به في هذا المجاز سمّيَ استعارةً تصريحيةً.
نرْجع
إِذاً إلى الأمثلة الثلاثة الأَخيرة؛ ويكفي أنْ نوضحَ لك مثالاً منها لتَقيس عليه
ما بعده، وهو قول الحجاج في التهديد: "إِنِّي لأَرى رؤوساً قد أيْنَعتْ"
فإنَّ الذي يُفهَم منه أَن ْيشبِّه الرؤوس بالثمرات، فأَصلُ الكلام إِني لأرى
رؤوساً كالثمراتِ قد أينعت، ثم حذف المشبّه به فصار إني لأرى رؤوساً قد أينعتْ،
على تخيُّل أنَّ الرؤوس قد تمثلت في صورة ثمارٍ، ورُمزَ للمشبَّه به المحذوف بشيء
من لوازمه وهو أينعتْ، ولما كان المشبَّه به في هذه الاستعارةُ محْتجَباً سميتِ
استعارة ًمكنيةً، ومثلُ ذلك يقال في "امتطينا الخطوبا" وفي كلمة
"المجد" في البيت الأخير.
(13) الاسْتِعارَةُ مِنَ المجاز اللّغَويَّ،
وهيَ تَشْبيهٌ حُذِفَ أحَدُ طَرفَيْهِ، فَعلاقتها المشابهةُ دائماً، وهي قسمانِ:
(أ) تَصْريحيّةٌ، وهي ما صُرَّحَ فيها بلَفظِ
المشبَّه بهِ.
(ب) مَكنِيَّةٌ، وهي ما حُذِفَ فيها المشَبَّهُ
بهِ ورُمِزَ لهُ بشيء مِنْ لوازمه.
نَمُوذَجٌ
(1) قال المتنبي يَصِفُ دخيل رسولِ الرّوم على
سيف الدولة [10]:
وَأقْبَلَ يَمشِي في
البِساطِ فَما درَى إلى البَحرِ يَسعَى
أمْ إلى البَدْرِ يرْتَقي
(2) وصفَ أعرابيٌّ أخاً له فقال: كان أخِي يَقْري
العينَ جَمالا والأُذنَ بياناً [11] .
(3) وقال تعالى على لسان زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ
مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}
(4) سورة مريم.
(4) وقال أعرابيٌّ في المدح: فُلانٌ يَرمي
بِطَرْفِهِ حَيْثُ أَشَارَ الكَرمُ [12] .
الإجابةُ
(1) أ ـ شُبِّهَ سيفُ الدولة بالبحر بجامع [13] العطاءِ ثم استُعيرَ
اللفظُ الدال على المشبَّه به وهو البحر للمشبَّه وهو سيف الدولة، على سبيل
الاستعارة التصريحيةِ، والقرينةُ "فأَقبل يمشي في البساط".
ب
ـ شُبِّهَ سيف الدولة بالبدرِ بجامع الرّفعةِ، ثم استعيرَ اللفظ الدال على المشبَّه
به وهو البدر للمشبَّه وهو سيف الدولة، على سبيل الاستعارة التصريحيةِ، والقرينةُ
"فأََقبل يمشي في البساط".
(2) شبِّهَ إمتاعُ العين بالجمالِ و إمتاعُ
الأُذن بالبيانِ بقِرَى الضيف، ثم اشتُقَّ من القِرى يَقْرِي بمعنى يُمْتِعُ على
سبيل الاستعارة التصريحيةِ، والقرينةُ جمالاً وبياناً.
(3) شُبِّهَ الرأسُ بالوقودِ ثم حذِف المشبَّه
به، ورُمزَ إليه بشيءٍ من لوازمه وهو "اشتعل" على سبيل الاستعارة
المكنيةِ، والقرينةُ إثبات الاشتعالِ للرأس.
(4) شُبِّهَ الكرمُ بإنسانٍ ثم حُذِفَ ورُمزَ
إليه بشيء من لوازمه وهو "أَشار" على سبيل الاستعارة المكنيةِ، والقرينة
إثباتُ الإشارة للكرم.
[4]
- بيض
الهند: السيوف، واللمم جمع لمة: وهي الشعر المجاور شحمة الأذن، والمراد بها هنا
الرموس.يقول: لا ترى الانتصار لذيذاً إلا بعد معركة تتلاقي فيها السيوف بالرؤوس.
[5]
- زهر
الأكم في الأمثال و الحكم - (ج 1 / ص 348)
وحياة الحيوان الكبرى - (ج 1 / ص 162)
وصبح الأعشى - (ج 1 / ص 89)
والكامل في اللغة والادب - (ج 1 / ص 101) وتاج العروس - (ج 1 / ص 5643)
ولسان العرب - (ج 8 / ص 415) ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 114)
شَبَّهَ رُؤُوسَهُم لاسْتِحْقَاقِهِمْ
القَتْلَ بثِمَارٍ أدْرَكَتْ وحانَ أن تُقْطَفَ
[6]
- أينعت
من أينع الثمر إذا أدرك ونضج، وحان قطافها: آن وقت قطعها، يريد أنه يصير بحال
القوم من الشقاق والخلاف في بيعة أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فهو يحذرهم
عاقبة ذلك.
[8]
- امتطينا:
ركبنا، والخطوب: الأمور الشديدة، يقول: لما عزت الإِبل عليه لفقره حملته الخطوب
على قصد هذا الممدوح فكانت له بمنزلة مطية يركبها.
[9]
- نفح
الطيب من غصن الأندلس الرطيب - (ج 6 / ص 417)
وشرح ديوان المتنبي - (ج 1 / ص 263) والوساطة بين المتنبي وخصومه - (ج 1 /
ص 33) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 49 / ص 88)
يقول
:أقبل الرسول يمشي إليك بين السماطين فتصور له منك البحر في السخاء والبدر في
العلاء فلم يدر أنه يمشي إلى البحر أم إلى البدر